شريعة الإسلام شريعة واسعة كاملة، اشتملت على كل ما تمس إليه حاجة البشر، حاجة الذكور والإناث في الدنيا وفي الآخرة، فذكر الله تعالى نساء الدنيا وجعل لهن أحكاما، وذكر النساء في الآخرة وذكر ثوابهن كثواب الرجال المؤمنين، وفي هذا تمام العدل والحكمة logo إن الغذاء الطيب من مكسب حلال يكسب القلب قوة، ويكسبه صفاء وإخلاصا، ويكون سببا في قبول الأعمال وإجابة الدعوات. والغذاء الطيب يكون سببا في بركة الله ومباركته للأعمال والأعمار والأموال، وأثر ذلك واضح، فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (كل لحم نبت على سحت فالنار أولى به) (يجب) على الوالد التسوية بين أولاده في العطية والتمليك المالي، (ويستحب) له التسوية في المحبة والرعاية، لكن إذا كان فيهم من هو معاق أو مريض أو صغير ونحوه فالعادة أن يكون أولى بالشفقة والرحمة والرقة. وقد سئل بعض العرب: من أحب أولادك إليك؟ فقال: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يقدم. إذا كان عقل المريض معه وفهمه وإدراكه فإن الأوامر والأحكام الشرعية تنطبق عليه، ويكلف بالصلاة والصوم والطهارة ونحوها بحسب القدرة، ويجوز مساعدته على الطهارة إن قدر على غسل أعضائه، فإن عجز عن استعمال الماء في أعضائه وشق غسلها عليه عدل إلى التيمم، فإن عجز فإن المرافق يقوم بذلك بأن يضرب التراب فيمسح وجهه وكفيه مع النية. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". فلو خانك إنسان فلا تجازه بالخيانة، بل اصفح وتجاوز عنه حتى يثيبك الله بالحسنى ويعفو عنك، ويعاقبه على خيانته إذا كان قد تعمدها، ولربما ندم إذا رآك تعامله بهذه المعاملة وهو قد خان! فيندم ويتخلق بأخلاقك؛ فيكون عملك هذا دعوة وسببا للتخلق بهذا الخلق العظيم.
shape
شرح مقدمة التفسير لابن تيمية
118643 مشاهدة print word pdf
line-top
أصول المعتزلة وأثرها على التأويل

يقول: فهؤلاء وأمثالهم اعتقدوا مذاهب المعتزلة. ذكر أن أصول المعتزلة خمسة يسمونها التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين وإنفاذ الوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إذا رأيت أسماءها وإذا هي أحسن شيء، ولكن في داخلها حقد وفي داخلها دسائس؛ فالتوحيد عندهم هو توحيد الجهمية الذي مضمونه نفي الصفات وغير ذلك. قالوا: إن الله لا يرى، والقرآن مخلوق، وليس الله فوق العالم ولا يقوم به علم ولا قدرة ولا حياة ولا سمع ولا بصر ولا كلام ولا مشيئة ولا صفة من الصفات هذا هو التوحيد عندهم.
لماذا سموه توحيدا؟ لأن أخص الصفات عندهم صفة القدم فإذا أثبتوا هذه الصفات وكانت قديمة لم يكن القديم واحدا بل عددا؛ فإنهم يقولون: الله تعالى قديم، فإذا قلنا: لله تعالى سمع، وسمعه قديم، وله بصر وله كلام وله علم وله قدرة وله محبة، كانت هذه صفات أيضا قديمة؛ فلا يكون القديم واحدا بل عددا. ثم إنهم يعتقدون أن الصفات شيء زائد على الذات، وأن الصفة غير الموصوف وكل هذا سوء فهم؛ وذلك لأن الصفة تقوم بالموصوف وإذا كانت الصفة بالموصوف فلا يثبت التعدد. فنحن نقول: إن الله واحد وأن له سمعا وبصرا ويدا ووجها ونحو ذلك، كما يكون ذلك في الإنسان، أنت مثلا إذا قلت: جاءني رجل واحد. فهل تعدد جوارحه؟ واحد, لا تقول جاءني وجاءني رأسه وجاءتني يده وجاءتني رجله وجاءني قلبه وجاءني... واحد. فكذلك إذا قلنا: الله تعالى واحد؛ فكذلك نقول: الله واحد بسمعه وبصره وبكلامه وبحياته وبعلمه وبمحبته واحد، فلا يكون في إثبات الصفات إثبات للتعدد، ولكن المعتزلة جعلوا التوحيد هو نفي الصفات، فكأنهم أثبتوا ذاتا مجردة عن الصفات، فجعلوا هذا هو التوحيد حتى نفوا الجهة، نفوا أن يكون الله تعالى على عرشه، وأن يكون فوق العالم، ونفوا أن الله تعالى يرى بالأبصار عيانا في الآخرة، ونفوا أن الله متكلم، وجعلوا القرآن مخلوقا.
وقالوا: إن الله ليس فوق العالم، ونفوا أن يقوم به شيء من الصفات، فقالوا: ليس له علم ولا قدرة ولا حياة ولا سمع ولا بصر ولا كلام ولا صفة من الصفات، كل ذلك مخافة التعدد عندهم، هذا حقيقة التوحيد.
ولما اعتقدوا هذا تأولوا الآيات التي تدل على هذه الأشياء، ولكن وقعوا فيما فروا منه، فإنهم إذا قالوا: إن الغضب إرادة الانتقام، قلنا لهم: أنتم أثبتم إرادة، فهل هي كإرادتنا؟ فإذا قالوا: لا، إرادة تليق به، قلنا: نحن نقول: غضب يليق به، وكذلك محبة تليق به، وأشباه ذلك من الصفات، فنثبتها ونقول: إنها من الصفات التي تناسب الموصوف؛ وذلك لأن كل صفة تناسب من يتصف بها. ولو اتفقت الأسماء فإنها تختلف باختلاف المضاف إليها، فمعلوم مثلا أن المخلوقات توصف بالحياة مع تفاوت ما بينها، فأنت تقول هذه أرض حية وهذه شجرة حية وهذه ناقة حية، فهل يقال حياة الناقة كحياة الشجرة؟ اتفقا في الاسم، فالحاصل أن هذا يطول الكلام حوله وهو معروف في كتب العقيدة.
الثاني: العدل ما مرادهم بالعدل ما هو عدلهم؟ نفي قدرة الله تعالى على أفعال العباد، أن الله لم يشأ جميع الكائنات ولا خلقها ولا هو قادر عليها كلها، نفي القدرة، ويقولون: إن الله لو خلق المعصية في العاصي ثم عاقبه كان ظالما ولم يكن عادلا، هذه فكرتهم.
ونحن نقول: إن الله تعالى خالق كل شيء وأنه هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ولا يكون في الوجود إلا ما يريد، وأنه سبحانه المتصرف في خلقه كما يشاء، فليس لأحد تصرف معه. ولكن نقول أيضا: إنه سبحانه أعطى العباد قدرة يزاولون بها الأعمال تنسب بها أعمالهم إليهم. فالعباد فاعلون حقيقة والله خالقهم وخالق أفعالهم، وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم، والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم يعني تنسب إليه أعماله، مع أن الله هو الذي هداه وأنعم عليه فصار مؤمنا، وأضل هذا وخذله حتى اختار الكفر فصار كافرا، ولله الحجة على خلقه قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ .
والحاصل أن عند هؤلاء أن أفعال العباد لم يخلقها الله، لا خيرها ولا شرها, فيجعلون قدرة العبد أقوى من قدرة الرب تعالى. ويقولون: إن الله لم يرد إلا ما أمر به شرعا، ما أراد إلا الطاعات التي أمر بها، فهذه المعاصي ما أرادها. قد تكلم العلماء على الإرادة وقسموها إلى إرادة دينية شرعية، ولا يلزم وقوع مرادها، وإلى إرادة كونية قدرية يلزم وقوع مرادها. فالدينية الشرعية محبوبة له، وأما الإرادة الكونية القدرية فقد تكون محبوبة كأعمال المسلم وقد تكون مكروهة كأعمال الكافر. فيقولون: ما سوى ذلك فإنه يكون بغير مشيئته، ولا قدرة له على هداية ولا على إضلال، هذا عدلهم.
يقول: وقد وافقهم على ذلك متأخرو الشيعة الرافضة ولا يزالون على هذه العقيدة، حتى الذين في المملكة على عقيدة المعتزلة، يعني: مشائخهم في نفي الصفات. وكذلك أيضا الإباضية على هذه العقيدة التي هي نفي الصفات ونفي قدرة الله تعالى على أفعال العباد، مَثَّلَ من الشيعة كالمفيد وأبي جعفر الطوسي وأمثالهما من الشيعة.
ولأبي جعفر هذا تفسير على هذه الطريقة، تفسير له يوافق فيه المعتزلة على نفي الصفات، ويوافقهم أيضا على نفي القدرة. يصفون الله تعالى بالعجز، أنه عاجز عن الهداية، ثم إنه ذكر أن الطوسي وهو من كبار الروافض يضم إلى ذلك قول الإمامية الاثني عشرية. يعني يجمع الخطأين أخطاء المعتزلة يأخذها فيعتمدها في نفي الصفات وفي نفي القدرة، وكذلك أخطاء الروافض في تأويل الآيات على ما يعتقدون.
رد عليهم طوائف، رد عليهم هذا الاعتقاد كثير من المرجئة؛ لأنهم مع المرجئة في طرفي نقيض، المرجئة يغلبون جانب الرجاء ويرخصون للعصاة في المعاصي، وهؤلاء ويسمون الوعيدية. المعتزلة والخوارج يسمون الوعيدية الذين يقولون: إن أحاديث الوعيد نافذة، وإن كل من مات وفعل معصية فإنه مخلد في النار، فيكونون في طرفي نقيض. وأهل السنة متوسطون.
الكرامية أتباع محمد بن كرام ويغلب عليهم الإثبات، ولهم أقوال أيضا شاذة في الإيمان وغيره. الكلابية أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب والذي اعتقد أو نهج منهجه أبو الحسن الأشعري والذي على مذهبه الآن طائفة الأشاعرة، فإنهم في الحقيقة كلابية لا أشاعرة؛ لأن الأشعري رحمه الله قد رجع عما كان عليه هذا الكلابي. فالحاصل يقول: أحسنوا تارة وأساءوا أخري.
يعني لما ردوا عليهم ردوا على المعتزلة، المرجئة والكرامية والكلابية وأتباعهم، ردوا على المعتزلة فأحسنوا وأساءوا حتى صاروا في طرفي نقيض كما قد بسط في غير هذا الموضع.

line-bottom